فصل: مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب ما قاله الهدهد لسليمان وعلوم القرآن الأربعة:

قالوا ثم سأله عن تأخره {فَقالَ} بعد أن أمن {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ} ألهمه اللّه هذا الكلام لينبّه سليمان بأن أدنى خلق اللّه علم ما لم يعلمه وهو بما عليه من النبوة والرسالة والملك، والإحاطة أبلغ من العلم بالشيء وقد أخفى اللّه مكان بلقيس على سليمان لمصلحة علمها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ثم قال: {وَجِئْتُكَ} يا رسول اللّه وملك الزمان {مِنْ سَبَإٍ} اسم لقبيلة جدها سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان، كان له عشرة أولاد سكن ستة منهم اليمن وأربعة الشام، وجاء أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم سئل عن سبأ فقال: رجل له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة واسم البلد التي هو فيها سبأ مأرب، ثم اعلم أنه جاء في رسم القرآن خاصة زيادة حروف تكتب ولا تقرأ وهي من معجزات القرآن لأن في اللغات الأجنبية حروفا تكتب ولا تقرأ ولهذا لم يغفل القرآن ذلك مثل الالف في {لَأَذْبَحَنَّهُ} هنا والهمزة في {بِأَيْدٍ} الآية 47 من الذاريات في ج 2، والألف في {بشراى} وفي كلمة جزاؤه في الآيتين 19 و74 من سورة يوسف ج 2، والواو في كلمتي الصلوات والزكاة في كثير من الآيات المكية والمدنية، والألف في كلمة {السُّواى} الآية 10 من سورة الروم وفي كلمة {لِشيء} الآية 14 من سورة الكهف في ج 2 أيضا وهذه لا تكتب في غير القرآن، إذ كان في رسم قرآن عثمان رضي اللّه عنه هكذا، وجب التقيد فيها حتى الآن وما بعد، ومن هنا تعلم أن العلوم المتعلقة بالقرآن أربعة:
الاول ما يتعلق بكتابته، وهو علم الرسم، الثاني ما يتعلق بالأداء وهو علم القراءات السبع، الثالث ما يتعلق بكيفية الأداء وهو علم التجويد، الرابع ما يتعلق بالألفاظ وهو علم الإعراب والبناء والتصريف والبيان والبديع والمعاني، وقد المعنا إلى بعض هذا في المقدمة وما بعدها عند كل مناسبة، وهكذا. إلى آخر هذا التفسير المبارك ومن اللّه التوفيق، ثم قال وسأخبرك {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} 22 عما وجدت ورأيت مما لا مرية فيه، فتشوق سليمان لذلك وقال أخبرني ما هو؟ قال: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شيء} يحتاجه الملك والملك {وَلَها} يا سيدي {عَرْشٌ عَظِيمٌ} 23 فخم كبير لا نظير له، واستعظمه بالنسبة إليها، قالوا كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا، وارتفاعه كذلك، وهو مصوغ من الذهب، ومكلل بالدّر والياقوت، ومرصع باللآلي الثمينة، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وأبيض وزمرد، وعليه سبع أبيات بعضها داخل بعض، على كل بيت باب مغلق، قالوا ثم قال له ومن أعلمك بذلك حتى ذهبت إليه؟ قال لا أحد، ولكني يا نبي اللّه لما اشتغلتم بالنزول من أجل قول النملة، وجدت فرصة لأن أطير بالفضاء في نظر هذا الكون، فرأيت هدهدا مثلي اسمه يعقير، وكان اسمه يعفور فسألني، فأخبرته عنك، وعن ملكك، وما سخره اللّه لك، فقال لي وأنا عند ملكة لا تقل عن ذلك، واسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان.

.مطلب ملك بلقيس وسلاطين آل عثمان:

قالوا كان أبوها يقول لسفراء الملوك لا أحد كفوء لي، ولم يتزوج منهم، فتزوج جنية اسمها ريحانه بنت السكن ملك الجن، وسبب زواجها أنه رأى حيتّين تقتتلان، فقتل السوداء ورش الماء على البيضاء، حتى أفاقت وانقلبت شابا، فعرض عليه المال، فأبى، فزوجه ابنته، وقال له إن الحيّة السوداء عبد تمرد علينا وقتل منا كثيرا، فأردت قتله كما رأيته، فلم أستطع، ولولاك لقتلني، ولهذا كافأتك بابنتي.
وتوجد روايات أخرى لم نعتمد صحتها، وأنا في هذه شاك أيضا، وإنما نقلناها استنادا لما جاء في بعض الأخبار عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أن أحد أبوي بلقيس جنّي.
قالوا وبعد وفاة أبيها ملك قومها عليهم ابن عمها، فساءت سيرته فيهم وصار يفجر في نساء رعيته، وقد عجزوا عنه، فاحتالت عليه وخطبته لنفسها، فخطبها، وقال لها ما منعني من خطيتك إلا اليأس منك، فقالت له لا أرغب عنك، لأنك كفو كريم، ولما زفت له بادرته بالخمر حتى سكر، فقتلته، ثم جمعت الوزراء وأنبتهم على صبرهم عليه مع انتهاكه حرماتهم، وقالت ما كان فيكم من يأنف لكريمته أو كرائم عشيرته من هذا الفاجر؟ وأظهرته لهم مذبوحا، وقالت اختاروا من تملكونه عليكم، فقالوا لا نرضى غيرك بعد أن فعلت هذا وصنت كرائمنا منه، فملكوها عليهم واللّه أعلم.
روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال:
لما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال:
لن يفلح قوم ملكوا أمرهم امرأة.
وبمناسبة قول الهدهد لسيدنا سليمان نذكر للقراء أن السلطان عبد الحميد العثماني رحمه اللّه كان إذا خرج إلى المسجد يخرج في موكب عظيم لا بضاهيه ملوك الأرض فيه، وكان يوقف ثلة على طريقه، وعند وصوله إليهم يقفون له بالاحترام ويقولون له بصوت عال يسمعه من معه من الملأ والوزراء والعلماء المحيطين به بلغتهم التركية: بادشاهم مغروروله سندن بيوك اللّه وار، يعني يا سلطاننا لا تغتر اللّه أكبر منك وعند ما يسمع كلامهم هذا يحني رأسه خضوعا لما قالوا إذلالا لنفسه، في عز سلطته المهيبة الباهرة، وجرى من بعده على هذه الخطة هضما لنفسه أيضا، مما يدل على أن ما يقوله الناس في ملوك آل عثمان مبالغ فيه واللّه أعلم، وأنهم كانوا يحترمون العلم والعلماء ويقدمونهم على غيرهم، من أهل الرتب العالية ويستثنون طلبة العلم من الخدمة الإجبارية ويعظمونهم في التشريفات فيقولون عند استقبالهم تفضّلوا، رتبة العلم أفضل الرتب.
هذا، ومن تتمة قول الهدهد {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وذلك لأنهم كانوا مجوسا {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} القبيحة، فرأوها حسنة {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الحق طريق أهل الرشد والهدى الذي هو السجود للّه وحده، لأن الشيطان لا يدلهم إلا على الضلال {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 24 إلى الصواب ما داموا متبعيه، ولذلك زين لهم أعمالهم الخبيثة {أَلَّا} لئلا على قراءة التشديد التي عليها القرآن، وعلى قراءة التخفيف يكون {ألا} أداة استفتاح تدل على الطلب بلين ورفق، ويكون المعنى ألا أيها الناس {اسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ} الشيء المخبأ المستور المدخر {فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} كالمطر والبرد والثلج وغيره والماء والنبات والأشجار والمعادن وغيرها مما علم ومما لم يعلم بعد {وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ} في أنفسكم من كل قول أو فعل {وَما تُعْلِنُونَ} 25 بالتاء، والياء بالخطاب والغيبة، واعلموا أيها الناس بأن العالم بذلك كله وغيره، هو {اللّه الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي لا أعظم منه، ولا يضاهيه عرش، الذي لا يستحق العبادة غيره، فعرش بلقيس وعرش سليمان وغيرهما لا تكون ذرة في صحراء بالنسبة لعرش الرحمن، اقرأوا إن شئتم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} الآية 256 من البقرة في ج 3، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، وفي هذه الآية ردّ على عبدة الأوثان وغيرهم وكل من يعبد غير اللّه وتنبيه إلى عظم عرش اللّه بالنسبة لجميع مخلوقاته، وإلى هنا انتهى قول الهدهد الذي قصه اللّه على رسوله {قالَ} سليمان عليه السّلام بعد أن سمع من الهدهد ما لم يسمعه، وقد تشوق إلى معرفة ذلك والوقوف عليه {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما ذكرته {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} 27 فيه لأنه قال وأوتيت من كل شيء، وهو عليه السّلام، لم يؤت كل شيء لهذا اشتغل فكره وتاقت نفسه لرؤية ذلك والوقوف عليه، فكتب كتابا لها وأعطاه إلى الهدهد، وقال له {اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} جمع الضمير باعتبار أنه لها ولقومها، وهو كالجواب لقول الهدهد {وَجَدْتُها وَقَوْمَها} إلخ، {فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ} 28 لنا من الجواب فأخبرني به قبل أن يصل إليّ لا تروي في الأمر، فأخذه وطار به، فدخل عليها والوزراء حولها، فرفرف بجناحه فنظرت إليه فرمى الكتاب إليها، ووقف قريبا ليسمع ما يقولون، ففضّته، فلما رأت الخاتم ارتعدت، وجمعت ملأها، فقرأته عليهم علنا، وقالوا كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كل منهم على عشرة آلاف، وعبارة الكتاب كما قص اللّه بلا زيادة ولا نقص، وهكذا كان الأنبياء يكتبون جملّا لا يطيلون فيها {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ} 29 مختوم، روي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: كرامة الكتاب ختمه أي شريف لشرف صاحبه، لأنها عرفت أنه أعظم منها من فحواه، وهو {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ} مكتوب فيه {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} فتمتنعوا من الإجابة للإيمان تكبرا وتعاظما {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 31 منقادين لي طائعين للّه فاستعظمت ما أمرت به في الكتاب، ونظرت إلى ملئها {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} هذا الذي نزل بي وأشيروا علي فيه لأني {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْرًا} يتعلق بالملك ولا أقضيه، أو أفعله وأمضيه بغيابكم، بل لا أعمل شيئا من ذلك {حَتَّى تَشْهَدُونِ} 32 بكسر النون أصله تشهدونني، فحذفت النون الأولى للنصب وحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها.
وقرأ يعقوب بإثبات الياء وقفا ووصلا، وقراءتها بفتح النون لحن وخطا، لأن النون تفتح في موضع الرفع لا النصب، أي حتى تشيروا علي وتشهدوا علي حتى لا ألام فيما بعد، لأن الاعتداد بالرأي من الجهل والأنفة، وفي هذه الآية دلالة على استحباب المشاورة والمعاونة بآراء الغير في الأمور المهمة، لان في تبادل الآراء واحتكاكها تظهر الحقيقة، كما تظهر النار باحتكاك الزناد بالحصى.
ولهذا البحث صلة في الآية 38 من سورة الشورى في ج 2 وفي الآية 159 من آل عمران في ج 3، {قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ} في الأجساد وآلات الحرب {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} بالقتال فنصبر على جهده ونصدق عند اللقاء ولا نكلم إلا بالصدور، وها نحن أولاء متهيئون لأمرك في الحرب والسلم، وهذا شأن الرعية مع الملك إذ ما عليهم إلا الطاعة {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} في قتال هذا الملك وعدمه لأنك أنت صاحبة الرأي الصائب فيما يتعلق بملك ورعيتك الذين نحن من جملتهم {فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ} 33 به نطيعه وننفذه، ولما فهمت من كلامهم أنهم ميالون للحرب جنحت إلى الصلح وبيّنت خطأهم في استعجالهم للقاء العدو بما قصه اللّه تعالى بقوله: {قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها} قتلا وسبيا ونهبا لرجالها وأموالها وتخريبا لبنائها وصنائعها ومعاملها مهما كانت {وَجَعَلُوا} فضلا عن ذلك {أَعِزَّةَ أَهْلِها} من ملوك وأمراء ووزراء وعظماء ووجهاء وعلماء {أَذِلَّةً} لإيقاع الهوان بهم من كل وجه لئلا يثوروا عليها، لأنهم لا يرضون بالتخلي عن ملكهم إلا قسرا {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} 34 في كل بلدة يفتحونها عنوة وقهرا، بسبب الانكسار والاندحار، وهذه هي عادتهم بأخذ البلاد حربا صدقت رحمها اللّه لأنا قد شاهدنا من الافرنسيين ما شاهدنا وهم لم يدخلوا بلادنا حربا فنسأل اللّه أن ينجينا منهم ومن غيرهم.